خريطة المستقبل الإسلامي

د. عبدالحليم عويس كتب:: الإسراء والمعراج
مشاهدة لخريطة المستقبل الإسلامي

يالها من ليلة عجيبة اتصلت فيها الأرض بالسماء على نحو جديد.

لقد صدر الأمر الإلهي فيها بإنفاذ أمر غير مألوف في الصلة بين (الوحي النازل) و(الموحى إليه عليه السلام)، الذي يسكن الأرض لا يبرحها، أما في هذه الليلة العجيبة فقد جاء الأمر بأن يصعد (الموحى إليه عليه السلام) نفسه ليتلقى الوحي هناك، ولكي ينتقل من واقعه الصعب الذي يعيشه على الأرض إلى عالم المستقبل الوضيء الذي تعدّه له العناية الإلهية.

إنه استدعاء لرؤية (الماضي والحاضر والمستقبل) معًا في رحلة واحدة، وفى ليلة واحدة يبدأ وقت الرحلة فيها بعد العشاء حين يسدل الظلام سدوله.

الإعداد والتهيئة:

وكان لا بد لتحقيق (الاستدعاء العجيب) من القيام بالإعداد الكافي (للموحى إليه عليه السلام)، الذي يُراد له - بجسده البشري وروحه - اختراق عالم الملائكة والأرواح، والوصول بالتالي إلى سدرة المنتهى، بعد أن يتخلص من نطاق الجاذبية، ومن ضغط القواعد الحاكمة للحياة البشرية.

كان ضروريًّا أن تتوقف قوانين الكثافة والجاذبية، والحاجات العضوية (البيولوجية)، وأن يكون - في المقابل - مزوَّدًا بقوى جديدة وإمكانات جديدة، تمكنه من الولوج في العالم العلوي الآخر الذي تحكمه قوانين قد لا يطيقها البشر.

ولهذا كان ضروريًّا أن ينزل (جبريل عليه السلام) وأن يخترق سقف بيت الرسول بمكة، وأن يشق صدر الرسول وهو في حالة تألُّق روحي خاص، ثم يغسله بماء زمزم، ثم يأتي بطست من ذهب يمتلئ حكمة وإيمانًا وإشعاعات ضد الجاذبية الأرضية لا يعلمها إلا الله، فيفرغه فيه!

وأعتقد أن ما كان في هذا الطست من مواد الحكمة سيبقى سرًّا من أسرار الغيب، لكنه - مع ذلك - كان كفيلاً لو نظر المسلمون من أصحاب البصائر والأبصار إلى معانيه وألغازه بفقه قلبي وعقلي معًا.

كان كفيلاً أن يدل المسلمين على إمكانية التخلُّص من الجاذبية الأرضية، والتعرف على الكواكب الأخرى تعرفًا ودودًا كريمًا؛ تأمينًا لأرضنا على الأقل من خطر التلوث البيئي الذي يتهددها في عصر انكماش طبقة الأوزون، وانتشار المواد الملوثة للبيئة والقاتلة للإنسان، وتأمينًا لها أيضًا من هؤلاء الذين يسخِّرون الفضاء لتدمير الإنسانية، لقد تركنا هذا المجال لأعداء الإيمان فأفسدوا البلاد والعباد!

وما أدراك ما البراق؟

والمهم أن الرحلة بدأت بعد عملية التهيئة، وجيء (بالبراق) الذي تعدُّ طبيعته وميكنته سرًّا من الأسرار الربانية، وحسبنا هنا ما وصفه به الرسول عليه السلام من أنه:

"دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه".

وما كان ممكنا أن يوصف (البراق) بغير ذلك وفقًا لمنهج التعامل مع العقول بما تطيق، ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾.

ومضى البراق فقطع المسافة من مكة المكرمة إلى بيت المقدس وهو يحمل أشرف نبي وأعظم إنسان عرفته الأرض: محمد بن عبدالله خاتم الأنبياء، كما يحمل أعظم ملك مطاع أمين عرفته السماء، وهو جبريل رسول الله إلى الأنبياء - عليهم السلام.

المعراج.. والزمان:

ولا ندري في كم دقيقة قطع البراق المسافة بين المسجد الحرام في مكة والمسجد الأقصى في فلسطين، فإن (الزمان) في رحلة (الإسراء والمعراج) أصبح (تابعًا) لا متبوعًا، ولم يعد الزمن هو (السيف) الذي إذا لم تقطعه قطعك، بل هو - هنا في ليلة الإسراء - (محكوم) لا يملك القطع، بل يمكن أن يُقطع فَتُبطَّأ حركته، وتتغير عقاربه!

ولقد قدم الأنبياء - عليهم السلام - جميعًا من عالم الغيب إلى المسجد الأقصى، ليلتقوا بالنبي الخاتم - عليه السلام - وكان (الزمان) في تلك الليلة العجيبة كافيًا ليجتمع الأب الأول (آدم) مع الأب الثاني (نوح) مع أبي الأنبياء (إبراهيم) مع بقية الأنبياء، حتى نبي القرن السابع الميلادي الذي بُعثَ سنة 610م وإلى آخر الزمان!

ها هم أئمة الدين ومعلمو الدنيا يلتقون في ليلة واحدة؛ مخترقين عشرات الألوف من السنين (ولا تأبه بما تقوله التوراة من أن عمر الإنسان على الأرض هو سبعة آلاف سنة فقط!!).

ها هم الأنبياء يلتقون معًا لمبايعة خاتم الأنبياء الذي يحمل إلى الدنيا جوهر دعوتهم جميعًا، ليعيد إلى الدعوة الإيمانية التي كُلِّفوا بها رواءها ونقاءها من الأوشاب اللاهوتية والمصلحية التي زيفتها، وليقدم للناس - منذ بعث وإلى يوم القيامة - الكتاب الذي أنزله الله ﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾، بل أنزله (بالحق وبالحق نزل)، وقد ضمن سبحانه - جل جلاله - حفظه، ولم يَكِلْ حفظه لغيره، فلهذا ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ﴾ [فصلت: 42].

وما على الأنبياء إلا أن يحمدوا الله على أن رسالتهم سوف تبقى إلى يوم القيامة تحت راية هذا النبي، فالإسلام إسلامهم جميعًا، وهم جميعًا مسلمون، وعليهم بالتالي أن يشدوا أزر هذا الرسول ويبايعوه؛ لأنه رسول الإسلام كله.

وقد فعلوا وصلَّوا خلفه - عليه السلام - ودعوا له، واحتفوا به في الأرض، وفي السماء.

معنى الإسراء إلى بيت المقدس:

وفي الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى دلالة على أن النبي الخاتم تجتمع فيه شجرة النبوة، فهو محمد الذي ينتهي في نسبه إلى إسماعيل وإبراهيم - عليهم السلام - كما أن سلسلة إسحاق ويعقوب ويوسف، وحتى موسى وعيسى - عليهم السلام - أنبياء بنى إسرائيل يلتقون معه.

وبالتالي تعود النبوة - في طورها الثاني - الذي بدأ بنبوَّة إبراهيم أبي الأنبياء، وافترق فيها الإسحاقيون عن الإسماعيليين، وانشق الساميون - أبناء سام - على بعضهم، ها هم مرة أخرى يعودون يدًا واحدة تبايع محمدًا وتسلمه الراية إلى يوم القيامة.

ولو عقل اليهود هذا الدرس، وكانت لديهم بقية إيمان، لعادوا إلى سنّة أنبيائهم، وأعطوا نبي الإسلام ما يستحقه من الإجلال، وهم الذين كانوا ينتظرونه في يثرب، ويهددون به الأنصار، فلما ظهر عادوه، وأنكروه، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم!!

ولهذا نُزعت راية الوحي والإيمان منهم، فلم يعد لهم - ويجب ألا يبقى لهم - وجود ديني في بيت المقدس، فالقدس للمسلمين، والمسجد الأقصى موقع البيعة النبوية العامة، ومن حق اليهود أن يزوروا القدس في كل عصر دون أن يغتصبوا الراية، فهم ليسوا أهلاً لها بعد خيانتهم لله ولرسوله وللطريق المستقيم.

وعلى المسلمين الذين أعطاهم الله راية المسجد الأقصى والمسجد الحرام معًا - أن يستشعروا المسؤولية، وألا يخونوا فلسطين، ولا يساوموا عليها؛ لأن حسابهم عند الله عسير تجاه أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وملتقى الإسراء، ومستهلّ المعراج.

المعراج وضعف بعض العقول:

مما يؤسف له أن بعض العقول قد ذهبت إلى أن الإسراء والمعراج كان بالروح فقط، وهو أمر يتناقض تمامًا مع معنى الإعجاز والتحدي، ومع معنى التعويض الرباني عن سنوات التعذيب والألم في مكة بعد وفاة خديجة أم المؤمنين - رضي الله عنها - وعمه أبي طالب.

فكل الناس يرون في رؤاهم أشياء فوق التصور والعقول، وفيم يمنُّ الله على رسوله إذًا؟ ولو كان الأمر كذلك فلِمَ أنكره المشركون وارتد بعض المسلمين إذًا؟

إن هذه الصور من الجدل يجب أن تنتهي، وليعلم جميع المنتمين للإسلام أنهم يتعاملون مع نبي عظيم لا بد له من معجزات، حتى وإن كانت معجزته الخالدة هي القرآن الكريم.

فإسراؤه بالروح والجسد أمر بديهي، وحنين الجذع إليه، والبركة في الطعام بواسطته - عليه السلام - وغير ذلك كلها معجزات مقبولة في نطاق أن الإسلام دين يحميه رب الكون، وفي نطاق أنه (رسول) يجب أن تتناغم معه القوى الكونية المسبحة لله بعون الله وإذنه.

وعندما عاد من الإسراء والمعراج، وسأله المشركون - على سبيل الاختبار والتكذيب المطلق - عن صفة بيت المقدس الذي ذهب إليه وصلى فيه - ولم يكن الرسول قد اهتم بالتفصيلات الدقيقة لانصراف حواسه إلى الأمور الكبيرة - فجلّى الله له صورته بين عينيه ووصفه لهم وصفًا تفصيليًّا مفحمًا.

وليس من حق مسلم أن يزعم أن عقله يرفض هذه القصة، وإلا فإنه يعطي عقله حق رفض بعض الوحي وقبول بعضه.

إن كل هذه الرؤى المذبذبة بعيدة عن المنهاج العلمي الإيماني!!

• ولقد كان أبو بكر الصديق أفضل الناس في استيعاب هذا المنهاج العلمي الإيماني المعتمد على البديهيات والفطرة والحق المجرد؛ ولهذا بادر بالقول لمن سألوه عن دعوى صاحبه، فقال لهم بمنطلق العقل الراجح: إن كان قال فقد صدق، إنّي لأصدقه في الخبر يأتيه من السماء وهو أبعد من ذلك!!

• ومعنى كلام أبي بكر أن الله الذي يجعل جبريل ينزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- من السماء بالقرآن في لحظات، قادرٌ على أن يجعل محمدًا يصعد إلى السماء في لحظات، فالقياس واحد، لكنها العقول المضطربة المسحوقة تحت هيمنة الفكر المادي؟

المعراج: والرؤية الكونية:

في الملأ الأعلى فرضت الصلاة على الرسول في المعراج خمسًا في الفعل، وخمسين في الأجر؛ أي: إن صلة ذات ديمومة واستمرارية قد انعقدت بين المسلمين القادمين والسماء بصورة مختلفة عن الصلوات السابقة.

وفي الصلاة التي شرعت في المعراج اختصار للإسلام كله؛ فكرًا، وتدبُّرًا، وخضوعًا، وإخضاعًا للجسد في الركوع والسجود، موصولا اتصالاً متجددًا في كل يوم بين الخالق والخلوق، وعروجًا في كل يوم بالروح إلى السماء.

فالصلاة سلَّم عروج مستمرّ منذ ليلة المعراج الميمونة.

وفى الملأ الأعلى اطمأن الرسول على مستقبل دعوته وأمته، إنها ستمتد عبر الإمبراطوريتين الحاكمتين للعالم، ستكون أرض دجلة والفرات، وأرض النيل المنطلق - بعد المدينة - للانسياح في الأرض، ولقد شهد الرسول المعالم الكبرى لخريطة المستقبل الإسلامي، فعرف القيمة الحقيقية لأهل الأرض الذين يؤذونه في مكة والطائف، ومن ثَمَّ اطمأنَّ على مسيرة الإسلام.

• وقد فضّل شرب (اللبن) على الخمر والماء، وكان تفضيله موفقًا؛ لأنه فضَّل (الفطرة)، فكان دينه دين الفطرة والطبيعة الإنسانية السوية، وهذا من أسباب سريانه في الدنيا سريان الشمس والقمر، وكأنه يتحرك حركة الليل والنهار(!!)، ولا يعوزه إلا رجال يحملونه بفكرهم وأخلاقهم إلى آفاق المعمورة!!

الزناة واللوطيون وجهنم:

وبمناسبة الترويج للزنا واللواط في مؤتمرات السكان التي تعقد بقاهرة الأزهر قلعة الإسلام، نقتبس صورة من الصور التي رآها الرسول، وهو يطل على أودية جهنم، لقد رأى قومًا بين أيديهم (لحم نضيج طيب في قدر، ولحم آخر نيِّئ قذر خبيث، فجعلوا يأكلون من اللحم النيئ الخبيث، ويتركون النضيج الطيب، فقال:

من هؤلاء يا جبريل؟

فقال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيبة فيأتي امرأة خبيثة ويبيت عندها، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيبًا فتأتي رجلاً خبيثًا فتبيت معه!!

وهؤلاء الزناة الخبثاء - وغيرهم من اللوطيين الذين تحكم عليهم الأديان بالحرق لا يعيشون في هذا اللحم النيئ القذر الخبيث فحسْب - بل يضاف إلى ما هم فيه أيضًا تلك الريح الخبيثة العامة في جهنم، فهم بين الخبيث الخاص (كزناة ولوطيين)، وبين الخبيث العام الذي يسود مناخ جهنم!! ولقد سأل الرسول صاحبه جبريل عن هذا المناخ الجهنمي، فقال له جبريل: إن جهنم تشكو إلى الله ما هي فيه قائلة: يا رب ائتني ما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي، وسعيري، وحميمي (الماء الحار) وضريعي، وعذابي، وقد بَعُد قعري واشتدّ حرّي، فأتني ما وعدتني فقال الله لها:

لك كل (مشرك ومشركة)، و(كافر وكافرة)، وكل (خبيث وخبيثة)، وكل (جبَّار) لا يؤمن بيوم الحساب فقالت جهنم: قد رضيتُ يا رب.

إن جهنم تحن إلى أهلها، وتشتاق إليهم، كما تشتاق الجنة إلى أهلها.

فَلْيسْتعد (فريق الجنة) ليوم يساقون فيه إلى الجنة زمرًا.

وليستعد (فريق السعير) ليوم يساقون فيه إلى جهنم زمرًا.

ليستعد كل مشرك وكافر وزان ولوطي، وكل خبيث وخبيثة وجبار للسفر إلى جهنم، فهي تشتاق إليهم.

• إلا أن يتوبوا.

وعليك يا إمام الأنبياء والمتقين وخاتم المرسلين، في إسرائك ومعراجك، وفى كل أطوار حياتك - أزكى الصلوات وأتم التسليمات.

رابط الموضوع الاصلي : https://www.alukah.net/web/aweys/0/73323/#ixzz5WyuntLQz

» الفقه المالكي في بلاد الغرب الإسلامي
» ماذا يفعل المنجمون لاستنباط توقعات المستقبل